حق المسلم على المُسلم
( خطبتا الجمعة في مسجد دَبلِن بإيرلندا اليوم الثاني من شوال 1423 هـ الموافق للسادس من ديسمبر ـ كانون الأوّل ـ 2002 م )
احصل على نسخة من الخطبة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تـموتنَّ إلا و أنتـم مسلمون [ آل عمران : 102 ] .
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بثَّ منهما رجالاً كثيراً و نساء ، و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيباً [ النساء : 1 ] .
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزاً عظيماً [ الأحزاب :70،71 ] .
أمّا بعد فيا عباد الله !
أوصيكم و نفسي بتقوى الله العظيم و طاعته ، و أحذّركم و بال عصيانه و مخالفة أمره ، و أذكركم و نفسي بحقوقه و حقوق خلقه ، التي افترَضَها الله تعالى في كتابه و على لسان نبيه .
إن ديننا الذي ارتضاه الله تعالى لنا منهجاًَ رَشداً يجمع بين الحقوق و الواجبات ، و لا يذهب فيه سدى شيء من الصالحات ، و لا ريب في أن الحقوق تجب على العباد بإيجاب الشارع الحكيم ، أما في حقه تعالى فلا شيئ يجب عليه إلا ما أوجبه على نفسه تفضلاً منه و منة .
و من جوامع الكلم و فصل الخطاب في بيان مجمل الحقوق و أوجب الواجبات ما رواه الشيخان و غيرهما و اللفظ لمسلم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت ردف رسول الله صبى الله عليه وسلم ليس بيني و بينه إلا مؤخرة الرحل فقال : ( يا معاذ بن جبل ) ، قلت ُ : لبيك رسول الله صبى الله عليه وسلم و سعديك ، ثم سار ساعة ثم قال : ( يا معاذ بن جبل ) قلت ُ : لبيك رسول الله صبى الله عليه وسلم و سعديك ، ثم سار ساعة ثم قال : ( يا معاذ بن جبل ) ، قلت ُ : لبيك رسول الله صبى الله عليه وسلم و سعديك ، قال : ( هل تدري ما حق الله على العباد ؟) قال : قلت : الله و رسوله أعلم ، قال : ( حق الله على العباد أن يعبدوه و لا يُشركوا به شيئاً ) ، ثم سار ساعة ، فقال : ( يا معاذ ) قلتُ : لبيك رسول الله صبى الله عليه وسلم و سعديك ، قال : ( هل تدرري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ ) قلت : الله و رسوله أعلم ، قال : ( أن لا يُعذبَهُم ) .
النـاس مـا عقَـلـوا لله عبـاد *** حتى و إن جهلوا يوماً و إن حادوا
يحدوهـمُ أملٌ فـي نيـل مغفرة *** في يوم محشرهـم لله إن عـادوا
ما دام مرتكـزاً إفـراد بارئـهم *** في أصـل فطرتهم و الدين توحيدُ
عباد الله !
إن توحيد الله تعالى بما أوجب توحيده به من أفعاله و أسمائه و صفاته و عبادة خلقه أوجب الواجبات ، و أهم المهمات التي عليها مدار الفوز و النجاة ، في الحياة و بعد الممات ، و لهذا كثر النكير على من وقع في الشرك المنافي لتوحيد رب البريات ، و آذن الله تعالى المشركين بالإياس من المغفرة و دخول الجنات .
قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا [ النساء : 116 ] .
و من عدله المطلَق سبحانه و تعالى أن لا يُضيع شيئاً من حقوق العباد حتى يقتص لصاحبها أو يرضيه برفع درجاته أو تكفير سيئاته ، فما ربك بظلام للعبيد ، و لا يرضى الظلم بين العبيد ، بل يقول لمن دعا على ظالمه : ( و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين ) كما روينا بإسناد حسن عن خير البشر .
فإن برئت ذمتك من التفريط في جنب الله ، و سلمت من الوقوع في الشرك بالله ، فحذار حذار من الاستطالة في حقوق العباد أو التقصير فيما أوجب الله عليك صرفه لهم ، فإنك موقوف و محاسَبٌ عن كل اقتراف ، أو مجانبة للحق و الإنصاف .
روي في المسند عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صبى الله عليه وسلم قال : ( الدواوين عند الله عز و جل ثلاثة ؛ ديوان لا يعبأ الله به شيئاً ، و ديوانٌ لا يترك الله منه شيئاً ، و ديوانٌٌ لا يغفره الله ؛ فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله ، قال الله عز و جل : و من يُشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة . و أما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسَه فيما بينه و بين ربه ، من صوم يوم تركه أو صلاة تركها ، فإن الله عز و جل يغفر ذلك و يتجاوز إن شاء ، و أما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظُلمُ العباد بعضَهم بعضاً : القصاص لا محالة ) .
نعم يا عباد الله ! إن حقوق العباد لا يستهين بها إلا غر مغبون ، جاهل بالعواقب و الخواتيم ، أما من اصطفاه الله و تولاه ، و وفقه لما فيه رضاه فلا يفرط في شيء منها ، و أقلها ما جاء التأكيد عليه في السنة تخصيصاً ، و هو حق المسلم المتعين الأداء على المسلم .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صبى الله عليه وسلم قال : ( حق المسلم على المسلم خمس رد السلام و عيادة المريض و اتباع الجنائز و إجابة الدعوة و تشميت العاطس ) متفق عليه .
و في رواية في صحيح مسلم : ( حق المسلم على المسلم ست : إذا لقيته فسلم عليه ، و إذا دعاك فأجبه ، و إذا استنصحك فانصح له ، و إذا عطس فحمد الله فشمته ، و إذا مرض فعُده ، و إذا مات فاتبعه ) .
و في رواية مسلم هذه زيادات و قيود هامة في التعامل بين المسلمين ، أولها زيادة حقوق المسلم عدداً ، و في هذا دلالة على أن العدد المذكور يفيد مراعاة حال السائل و ليس الاقتصار على ما ذكر .
و ثانيها الأمر بالسلام مطلقاً على من يلقاه المسلم من المسلمين ، و ليس مجرد رد السلام على من ابتدأه به ، لما لإفشاء السلام في إشاعة المحبة و الألفة بين أفراد المجتمع ، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أن رسول الله صبى الله عليه وسلم قال : ( لا تدخلوا الجنة حتى تحابوا ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ) .
و ثالثها إيجاب إسداء النصيحة لمن يحتاجها من المسلمين ، لأن الدين النصيحة ، و من النصيحة الواجبة مناصحة المبتدع و الرد على المخالف بما يرده إلى الحق و لا يزيده نفرة منه ، و بعداً عنه ، و قد دأب السلف على مناظرة المخالفين في أصول الدين و فروعه ، و أطرهم على الحق أطراً بالحجة و البيان ، لا غير ، و ما مناظرات إمامَي السنة و أهلها في زمنيهما أحمدَ بن حنبل و أحمدَ بن تيمية إلا معالم في الطريق ترد على من يفر من المخالف إلى القذف و التشهير متذرعاً بآراء آحاد العلماء في عدم مناظرة المبتدعة رغم شذوذ هذا القول و مخالفته لما عليه جمهور السلف قولاً و فعلاً .
و رابع ما يستفاد من هذا النص الشريف : تقييد إيجاب تشميت العاطس بحمده لله تعالى ، فإن قال بعد عطاسه : الحمد لله . قيل له : يرحمك الله وجوباً على الكفاية ، و يتعين عليها بعدها أن يدعو لنفسه و لمشمته بما جاء في السنة كقوله : يهدينا و يهديكم الله و يصلح بالكم .
عباد الله !
إن حقوق إخوانكم من أهل القبلة عليكم لازمة ما دامت فيكم عين تطرف ، و لا تنتهي إلا باتباع جنائزهم بعد مماتهم فأدوا إليهم حقوقهم ، و اسألوا الله حقوقكم .
و ما دام الحديث عن حقوق العباد قائماً فمن المناسب الإشارة إلى ما أقره رسول الله صبى الله عليه وسلم قبل الهجرة و طبقه بعدها عملياً من أخوة الإسلام بين أبنائه و التآخي بين المسلمين فـ ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه ) كما ثبت بذلك الحديث في الكتب الستة .
و أخوة الإسلام أقوى من أخوة النسب ، و رابطته أوثق من رابطة الدم ، و لا مسوغ شرعاً للتبجح بالمصطلحات المبتدعة حديثاً من قبيل الأخوة في الوطنية أو القومية أو غيرهما من الدعوات الجاهلية .
و حذار من الانحراف بالانجراف وراء من يعد النصارى اخوة له ، بدعوى أن الله تعالى وصف بعض أنبيائه بأنهم إخوان لبني قومهم كما في قوله تعالى : و إلى مدين أخاهم شعيباً و قوله سبحانه : و إلى عاد أخاهم هوداً ، مع أنهم يغفلون عن أن الله تعالى لم يصف الأقوام بأنهم إخوة للأنبياء ، و إثبات الصفة ليس إثباتاً لما يقابلها كما هو معلوم عند أهل اللغة .
و من العجب أن نعد الصليبيين إخوةً لنا ، في الوقت الذي نغفل فيه أو نتغافل عن الأخوة الحقة التي تربطنا بأبناء ديننا و ملتنا ، و أهل قبلتنا ، في فلسطين و غيرها من بلدان المسلمين ، فنسلم إخواناً و نخذل آخرين ، يقبعون في سجون الغزاة المجرمين ، مع أن من حقهم علينا أن نقوم بواجب النصرة و الإمداد لهم .
أين نحن من أقوال أئمة السلف ، و هداة الخلف و قد أجمعوا على وجوب استنقاذ الأسير و فك العاني :
قال ابن العربي في أحكام القرآن بعد ذكر الأسرى المستضعفين : إن الولاية معهم قائمة , و النصرة لهم واجبة بالبدن بألا تبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك , أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم , حتى لا يبقى لأحد درهم ، كذلك قال مالك وجميع العلماء ، فإنا لله و إنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو , و بأيديهم خزائن الأموال و فضول الأحوال . اهـ .
و قال ابن تيمة : فكاك الأسارى من أعظم الواجبات ، و بذل المال الموقوف و غيره في ذلك من أعظم القربات .
فالله الله يا أمة الإسلام في إخوانكم ، إرعوا شؤونهم ، و أعطوهم حقوقهم ، و حذار من أن يكون في قلوبكم غل للذين آمنوا .
وفّقني الله و إيّاكم لخيرَيْ القول و العمَل ، و عصمنا من الضلالة و الزلل
أقول قولي هذا و استغفر الله الجليل العظيم لي و لكم من كلّ ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
و صلّى الله و سلّم و بارك على نبيّّّه محمّد و آله و صحبه أجمعين
( خطبتا الجمعة في مسجد دَبلِن بإيرلندا اليوم الثاني من شوال 1423 هـ الموافق للسادس من ديسمبر ـ كانون الأوّل ـ 2002 م )
احصل على نسخة من الخطبة
الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تـموتنَّ إلا و أنتـم مسلمون [ آل عمران : 102 ] .
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بثَّ منهما رجالاً كثيراً و نساء ، و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام إن الله كان عليكم رقيباً [ النساء : 1 ] .
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزاً عظيماً [ الأحزاب :70،71 ] .
أمّا بعد فيا عباد الله !
أوصيكم و نفسي بتقوى الله العظيم و طاعته ، و أحذّركم و بال عصيانه و مخالفة أمره ، و أذكركم و نفسي بحقوقه و حقوق خلقه ، التي افترَضَها الله تعالى في كتابه و على لسان نبيه .
إن ديننا الذي ارتضاه الله تعالى لنا منهجاًَ رَشداً يجمع بين الحقوق و الواجبات ، و لا يذهب فيه سدى شيء من الصالحات ، و لا ريب في أن الحقوق تجب على العباد بإيجاب الشارع الحكيم ، أما في حقه تعالى فلا شيئ يجب عليه إلا ما أوجبه على نفسه تفضلاً منه و منة .
و من جوامع الكلم و فصل الخطاب في بيان مجمل الحقوق و أوجب الواجبات ما رواه الشيخان و غيرهما و اللفظ لمسلم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت ردف رسول الله صبى الله عليه وسلم ليس بيني و بينه إلا مؤخرة الرحل فقال : ( يا معاذ بن جبل ) ، قلت ُ : لبيك رسول الله صبى الله عليه وسلم و سعديك ، ثم سار ساعة ثم قال : ( يا معاذ بن جبل ) قلت ُ : لبيك رسول الله صبى الله عليه وسلم و سعديك ، ثم سار ساعة ثم قال : ( يا معاذ بن جبل ) ، قلت ُ : لبيك رسول الله صبى الله عليه وسلم و سعديك ، قال : ( هل تدري ما حق الله على العباد ؟) قال : قلت : الله و رسوله أعلم ، قال : ( حق الله على العباد أن يعبدوه و لا يُشركوا به شيئاً ) ، ثم سار ساعة ، فقال : ( يا معاذ ) قلتُ : لبيك رسول الله صبى الله عليه وسلم و سعديك ، قال : ( هل تدرري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ ) قلت : الله و رسوله أعلم ، قال : ( أن لا يُعذبَهُم ) .
النـاس مـا عقَـلـوا لله عبـاد *** حتى و إن جهلوا يوماً و إن حادوا
يحدوهـمُ أملٌ فـي نيـل مغفرة *** في يوم محشرهـم لله إن عـادوا
ما دام مرتكـزاً إفـراد بارئـهم *** في أصـل فطرتهم و الدين توحيدُ
عباد الله !
إن توحيد الله تعالى بما أوجب توحيده به من أفعاله و أسمائه و صفاته و عبادة خلقه أوجب الواجبات ، و أهم المهمات التي عليها مدار الفوز و النجاة ، في الحياة و بعد الممات ، و لهذا كثر النكير على من وقع في الشرك المنافي لتوحيد رب البريات ، و آذن الله تعالى المشركين بالإياس من المغفرة و دخول الجنات .
قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا [ النساء : 116 ] .
و من عدله المطلَق سبحانه و تعالى أن لا يُضيع شيئاً من حقوق العباد حتى يقتص لصاحبها أو يرضيه برفع درجاته أو تكفير سيئاته ، فما ربك بظلام للعبيد ، و لا يرضى الظلم بين العبيد ، بل يقول لمن دعا على ظالمه : ( و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين ) كما روينا بإسناد حسن عن خير البشر .
فإن برئت ذمتك من التفريط في جنب الله ، و سلمت من الوقوع في الشرك بالله ، فحذار حذار من الاستطالة في حقوق العباد أو التقصير فيما أوجب الله عليك صرفه لهم ، فإنك موقوف و محاسَبٌ عن كل اقتراف ، أو مجانبة للحق و الإنصاف .
روي في المسند عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صبى الله عليه وسلم قال : ( الدواوين عند الله عز و جل ثلاثة ؛ ديوان لا يعبأ الله به شيئاً ، و ديوانٌ لا يترك الله منه شيئاً ، و ديوانٌٌ لا يغفره الله ؛ فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله ، قال الله عز و جل : و من يُشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة . و أما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسَه فيما بينه و بين ربه ، من صوم يوم تركه أو صلاة تركها ، فإن الله عز و جل يغفر ذلك و يتجاوز إن شاء ، و أما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظُلمُ العباد بعضَهم بعضاً : القصاص لا محالة ) .
نعم يا عباد الله ! إن حقوق العباد لا يستهين بها إلا غر مغبون ، جاهل بالعواقب و الخواتيم ، أما من اصطفاه الله و تولاه ، و وفقه لما فيه رضاه فلا يفرط في شيء منها ، و أقلها ما جاء التأكيد عليه في السنة تخصيصاً ، و هو حق المسلم المتعين الأداء على المسلم .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صبى الله عليه وسلم قال : ( حق المسلم على المسلم خمس رد السلام و عيادة المريض و اتباع الجنائز و إجابة الدعوة و تشميت العاطس ) متفق عليه .
و في رواية في صحيح مسلم : ( حق المسلم على المسلم ست : إذا لقيته فسلم عليه ، و إذا دعاك فأجبه ، و إذا استنصحك فانصح له ، و إذا عطس فحمد الله فشمته ، و إذا مرض فعُده ، و إذا مات فاتبعه ) .
و في رواية مسلم هذه زيادات و قيود هامة في التعامل بين المسلمين ، أولها زيادة حقوق المسلم عدداً ، و في هذا دلالة على أن العدد المذكور يفيد مراعاة حال السائل و ليس الاقتصار على ما ذكر .
و ثانيها الأمر بالسلام مطلقاً على من يلقاه المسلم من المسلمين ، و ليس مجرد رد السلام على من ابتدأه به ، لما لإفشاء السلام في إشاعة المحبة و الألفة بين أفراد المجتمع ، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أن رسول الله صبى الله عليه وسلم قال : ( لا تدخلوا الجنة حتى تحابوا ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ) .
و ثالثها إيجاب إسداء النصيحة لمن يحتاجها من المسلمين ، لأن الدين النصيحة ، و من النصيحة الواجبة مناصحة المبتدع و الرد على المخالف بما يرده إلى الحق و لا يزيده نفرة منه ، و بعداً عنه ، و قد دأب السلف على مناظرة المخالفين في أصول الدين و فروعه ، و أطرهم على الحق أطراً بالحجة و البيان ، لا غير ، و ما مناظرات إمامَي السنة و أهلها في زمنيهما أحمدَ بن حنبل و أحمدَ بن تيمية إلا معالم في الطريق ترد على من يفر من المخالف إلى القذف و التشهير متذرعاً بآراء آحاد العلماء في عدم مناظرة المبتدعة رغم شذوذ هذا القول و مخالفته لما عليه جمهور السلف قولاً و فعلاً .
و رابع ما يستفاد من هذا النص الشريف : تقييد إيجاب تشميت العاطس بحمده لله تعالى ، فإن قال بعد عطاسه : الحمد لله . قيل له : يرحمك الله وجوباً على الكفاية ، و يتعين عليها بعدها أن يدعو لنفسه و لمشمته بما جاء في السنة كقوله : يهدينا و يهديكم الله و يصلح بالكم .
عباد الله !
إن حقوق إخوانكم من أهل القبلة عليكم لازمة ما دامت فيكم عين تطرف ، و لا تنتهي إلا باتباع جنائزهم بعد مماتهم فأدوا إليهم حقوقهم ، و اسألوا الله حقوقكم .
و ما دام الحديث عن حقوق العباد قائماً فمن المناسب الإشارة إلى ما أقره رسول الله صبى الله عليه وسلم قبل الهجرة و طبقه بعدها عملياً من أخوة الإسلام بين أبنائه و التآخي بين المسلمين فـ ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه ) كما ثبت بذلك الحديث في الكتب الستة .
و أخوة الإسلام أقوى من أخوة النسب ، و رابطته أوثق من رابطة الدم ، و لا مسوغ شرعاً للتبجح بالمصطلحات المبتدعة حديثاً من قبيل الأخوة في الوطنية أو القومية أو غيرهما من الدعوات الجاهلية .
و حذار من الانحراف بالانجراف وراء من يعد النصارى اخوة له ، بدعوى أن الله تعالى وصف بعض أنبيائه بأنهم إخوان لبني قومهم كما في قوله تعالى : و إلى مدين أخاهم شعيباً و قوله سبحانه : و إلى عاد أخاهم هوداً ، مع أنهم يغفلون عن أن الله تعالى لم يصف الأقوام بأنهم إخوة للأنبياء ، و إثبات الصفة ليس إثباتاً لما يقابلها كما هو معلوم عند أهل اللغة .
و من العجب أن نعد الصليبيين إخوةً لنا ، في الوقت الذي نغفل فيه أو نتغافل عن الأخوة الحقة التي تربطنا بأبناء ديننا و ملتنا ، و أهل قبلتنا ، في فلسطين و غيرها من بلدان المسلمين ، فنسلم إخواناً و نخذل آخرين ، يقبعون في سجون الغزاة المجرمين ، مع أن من حقهم علينا أن نقوم بواجب النصرة و الإمداد لهم .
أين نحن من أقوال أئمة السلف ، و هداة الخلف و قد أجمعوا على وجوب استنقاذ الأسير و فك العاني :
قال ابن العربي في أحكام القرآن بعد ذكر الأسرى المستضعفين : إن الولاية معهم قائمة , و النصرة لهم واجبة بالبدن بألا تبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك , أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم , حتى لا يبقى لأحد درهم ، كذلك قال مالك وجميع العلماء ، فإنا لله و إنا إليه راجعون على ما حل بالخلق في تركهم إخوانهم في أسر العدو , و بأيديهم خزائن الأموال و فضول الأحوال . اهـ .
و قال ابن تيمة : فكاك الأسارى من أعظم الواجبات ، و بذل المال الموقوف و غيره في ذلك من أعظم القربات .
فالله الله يا أمة الإسلام في إخوانكم ، إرعوا شؤونهم ، و أعطوهم حقوقهم ، و حذار من أن يكون في قلوبكم غل للذين آمنوا .
وفّقني الله و إيّاكم لخيرَيْ القول و العمَل ، و عصمنا من الضلالة و الزلل
أقول قولي هذا و استغفر الله الجليل العظيم لي و لكم من كلّ ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
و صلّى الله و سلّم و بارك على نبيّّّه محمّد و آله و صحبه أجمعين