تأملات وعبر من حياة النبي ابراهيم عليه السلام
24/07/2007
إن إبراهيم (ع) هو من أنبياء أولي العزم، ومن الممكن أن نستلهم الكثير من حياته.. فهذا النبي هو من أكثر الأنبياء حضورا في حياة المسلمين؛ وذلك من خلال حركة الحج، حيث نلاحظ أن الله عز وجل قد خلّد ذكره، رغم البناء الإلهي على نسخ الأديان السابقة.. ولكن نبي الله إبراهيم احتل مساحة كبيرة من القرآن الكريم، ومن حركة الحج، ومن أحاديث النبي وآله.. وقد شرفه الله تشريفا عظيما، بأن جعل النبي وآله من نسل إبراهيم عليه السلام.
إن القرآن الكريم، هو أصدق مجموعة تاريخية تعكس حياة الأنبياء بشكل صحيح.. إذ لا حجية لغير القرآن من الكتب السماوية، والكتب التاريخية في هذا المجال.. نلاحظ أن القرآن الكريم عندما يشير إلى الأنبياء، فإنه يشير إلى سر الخلود في حياة الأنبياء، ولماذا وصلوا إلى هذه الدرجة العليا في القرب من رب العالمين.
نلاحظ أن هنالك عنصرين مهمين في حياة نبي الله إبراهيم (ع)، بالنسبة إلى سر خلوده:
أولا: هناك حركة باطنية تكاملية في وجود إبراهيم (ع): {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.. حيث أن كل إنسان يوم القيامة يأتي ربه بقلب سليم، ومحل اكتسابه لهذا القلب السليم هو الحياة الدنيا.. أما إبراهيم فقد جاء ربه بقلب سليم في الحياة الدنيا، الذي من آثاره أنه ليس فيه شيء إلا الله عز وجل: حبا، وخوفا، وخشية.. والقلب السليم هو ذلك القلب الذي يلقى الله، وليس فيه شيء سوى الله سبحانه وتعالى: إن كان في جانب المحبة، أو في جانب الخشية؛ كما جاء في القرآن الكريم: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}.
فإذن، إن الخطوة الأولى، قبل الانتقال إلى عالم المجتمع: خدمة، وسياسة، واقتصادا، وغزوا.. هو العمل على امتلاك هذا القلب السليم.. وهذا القلب يصل إليه العبد من خلال المراقبة المتصلة، ومن خلال التأملات الباطنية.. أما إبراهيم (ع) فقد كان يعيش هذه الحركة الباطنية التأملية {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ}.. فكانت له هذه النظرة التأملية التي عكسها على قومه.
ثانيا: التضحية العملية: أن يدعي الإنسان بأن له قلب سليم، وهو لا يقدم على الامتحان في الخارج.. ليس من الإنصاف في القول، فمن يزعم حب رب العالمين، لا بد أن يقدم امتحانا في هذا المجال، وهو ما وقع لهذا النبي العظيم.. امتحانه الأول كان في كيد الآلهة، وفي تحطيم الأصنام، وفي إلقائه في النار.. كان هذا امتحانا عمليا في طريق تبليغ الرسالة، حيث تحمل ما تحمل من التهديد أولا، ومن التنفيذ ثانيا في إلقائه في النار، وبعد ذلك الامتحان مع قومه ابتلي مع نفسه وذريته.
نحن نعلم أن من أقوى الأواصر البشرية، علاقة الأبوين بأولادهم، وخاصة إذا كان الولد وهو في صباه يحمل بذور الملكات العالية.. فالنبي إسماعيل وهو صبي، يختلف عن باقي الصبية.. ومن الطبيعي أن تكون محبة إبراهيم لولده إسماعيل، لا تقاس بمحبة الآباء لأولادهم؛ لما لهذا الصبي من بوادر وملكات النبوة.. كالعلاقة بين يعقوب ويوسف، تلك العلاقة التي أثرت على أولاده فقالوا: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا}.. وإذا الامتحان الإلهي يأتي عند هذه النقطة من العلاقة والمحبة؛ فقلب إبراهيم متشبث بولده، وله الحق بذلك من الناحية الإنسانية، أو الناحية الرسالية.. وإذا بإبراهيم يأتيه الأمر الإلهي.
ولو أن جبرائيل (ع) جاء بمقدمات مقنعة، أو آيات، أو بعض الهبات الإلهية، وبعض البشائر مثلا؛ لما كان الامتحان بهذا المستوى.. وإنما هو مجرد منام رآه هذا النبي {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.. ومنام الأنبياء كاليقظة حجة، فإبراهيم (ع) يؤمر أمرا لم يتعارف عليه في تاريخ البشرية، من مجرد منام.. فلم يقال لإبراهيم: سلّم ولدك لملك من ملائكة الله ليذبحه، لكن طُلب منه أن يذبحه بنفسه وبيده.. والإنسان لا يعلم، هل يتعجب من فعل وفاعلية إبراهيم، أو من قابلية إسماعيل.. فإبراهيم نبي له تاريخ وسابقة في المجاهدة، وقد رأى النصرة الإلهية في حياته، وخصوصا إذا كان هذا عقب إلقائه في النار.. ولكن ما بال هذا الغلام، الذي لم يمر بتجارب، وإذا به يقول {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، وليس لما تراه من المصلحة.. يقول: لا أزكي نفسي، وأنا في مقام الاستعداد لقبول الأمر الإلهي.. ولكن هذا الأمر يحتاج إلى إمداد إلهي {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
إن هذه القصة تثمر عن دروس كثيرة منها: درس في التوكل.. ودرس في الاستمداد من الله.. ودرس بأن الصبر هو عمود الدين، وبمنزلة الرأس من الجسد.. ودرس في التعبد الشرعي؛ أي مادام هناك أمر إلهي، فلا يوجد مجال لكلمة: لا.. فقد كان من الممكن لإسماعيل أن يسأل أباه، ما فلسفة هذا الحكم؟.. فأنا قبلت أن تذبحني، ولكل بيّن لي ما هي الفلسفة؟!.. لم يبحث الأب ولا الابن عن هذه الفلسفة.. ولهذا فإن رب العالمين يسلم عليه بعد ذلك: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
إن لإبراهيم مقام الخلة، ومقام رفع البيت، ومقام رفع القواعد، ومقام أن يكون جدا للمعصومين من ذريته؛ جزاءا لهذا الإحسان، ولهذه المجاهدة.. فالذي يريد الوصول إلى هذه الدرجات التكاملية، لابد أن يقدم قربانا لله بين يدي طاعته؛ يثبت لرب العالمين أنه في طريق العبودية الحقة لله عز وجل.
من المحطات الملفتة أيضا في حياة إبراهيم {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}.. أسكنهم عند البيت الحرام، ونحن نعلم أن هذا النبي كان من أغير الناس على ذريته وأهل بيته.. ولكنه قام بأمر مخالف أيضا للقواعد الطبيعية في هذا المجال، حيث ترك امرأة غريبة مع صبي صغير، في واد غير ذي زرع؛ عرضة لكل المخاوف والمخاطر، من قِبل المنحرفين والسراق وغيرهم.. ولكنه طلب من رب العالمين طلبا واحدا: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}.. لم يقل: اجعل هذه الأفئدة لأولياء صالحين ومخلصين، ولكن قال: أفئدة من الناس تهوي إليهم.. أي: يا رب!.. أنت بإمكانك أن تقلّب قلوب العباد، وتقلّب نفوسهم لما يصب في طريق الهدى والاستقامة.. وكلنا في حياتنا اليومية نطلب من الله عز وجل، أن يلّين أفئدة الخلق لنا سواء كانوا صالحين أو لا، لمكسب دنيوي أو أخروي.
بعد هذه التفضلات الإلهية العظيمة، يتمنى إبراهيم لذريته إقامة الصلاة {رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ}.. ما أهمية الصلاة عند إبراهيم حيث يقول: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء}؟..
في الختام نود أن نلقي ضوءا على إقامة الصلاة.. ما هو الفارق بين الإتيان بالصلاة، وإقامة الصلاة؟.. بين دفع الزكاة، وإيتاء الزكاة؟.. ما الفارق بين الإتيان والإقامة؟..
في إقامة الصلاة، هناك وجود خارجي لهذه الإقامة في حركة الحياة.. فالإنسان الذي يصلي في منزله، وسلوكه خارجه، لا ينسجم مع صلاته.. يقول: {إياك نعبد وإياك نستعين} في حمده، وفي الخارج يستعين بغير الله، ويعبد هواه.. فإذن، إن هذه الصلاة لا وجود لها خارجا، فهي صلاة على مستوى مجموعة من الألفاظ والحركات، أي صلاة ظاهرية.
أما إذا أضيف للألفاظ والحركات، انعكاس خارجي في الحياة؛ أصبحت صورة من صور إقامة الصلاة.. والقرآن الكريم بيّن لنا بأن هذه الركعات والألفاظ ينبغي أن يكون لها آثار خارجية {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}.. فإذن، إن النهي عن الفحشاء والمنكر، هو أثر خارجي؛ يحقق مفهوم إقامة الصلاة.. ولو كل إنسان أقام الصلاة بهذا المعنى، لما بقي منكر في المجتمع.. ومن هنا إبراهيم عندما يطلب هذا الطلب، يطلبه له ولذريته.. وكم من الجميل أن يطلب الإنسان الهداية له ولذريته إلى يوم القيامة، وليس لأولاده فحسب!.. {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}.. صدق الله العظيم
24/07/2007
إن إبراهيم (ع) هو من أنبياء أولي العزم، ومن الممكن أن نستلهم الكثير من حياته.. فهذا النبي هو من أكثر الأنبياء حضورا في حياة المسلمين؛ وذلك من خلال حركة الحج، حيث نلاحظ أن الله عز وجل قد خلّد ذكره، رغم البناء الإلهي على نسخ الأديان السابقة.. ولكن نبي الله إبراهيم احتل مساحة كبيرة من القرآن الكريم، ومن حركة الحج، ومن أحاديث النبي وآله.. وقد شرفه الله تشريفا عظيما، بأن جعل النبي وآله من نسل إبراهيم عليه السلام.
إن القرآن الكريم، هو أصدق مجموعة تاريخية تعكس حياة الأنبياء بشكل صحيح.. إذ لا حجية لغير القرآن من الكتب السماوية، والكتب التاريخية في هذا المجال.. نلاحظ أن القرآن الكريم عندما يشير إلى الأنبياء، فإنه يشير إلى سر الخلود في حياة الأنبياء، ولماذا وصلوا إلى هذه الدرجة العليا في القرب من رب العالمين.
نلاحظ أن هنالك عنصرين مهمين في حياة نبي الله إبراهيم (ع)، بالنسبة إلى سر خلوده:
أولا: هناك حركة باطنية تكاملية في وجود إبراهيم (ع): {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.. حيث أن كل إنسان يوم القيامة يأتي ربه بقلب سليم، ومحل اكتسابه لهذا القلب السليم هو الحياة الدنيا.. أما إبراهيم فقد جاء ربه بقلب سليم في الحياة الدنيا، الذي من آثاره أنه ليس فيه شيء إلا الله عز وجل: حبا، وخوفا، وخشية.. والقلب السليم هو ذلك القلب الذي يلقى الله، وليس فيه شيء سوى الله سبحانه وتعالى: إن كان في جانب المحبة، أو في جانب الخشية؛ كما جاء في القرآن الكريم: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}.
فإذن، إن الخطوة الأولى، قبل الانتقال إلى عالم المجتمع: خدمة، وسياسة، واقتصادا، وغزوا.. هو العمل على امتلاك هذا القلب السليم.. وهذا القلب يصل إليه العبد من خلال المراقبة المتصلة، ومن خلال التأملات الباطنية.. أما إبراهيم (ع) فقد كان يعيش هذه الحركة الباطنية التأملية {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ}.. فكانت له هذه النظرة التأملية التي عكسها على قومه.
ثانيا: التضحية العملية: أن يدعي الإنسان بأن له قلب سليم، وهو لا يقدم على الامتحان في الخارج.. ليس من الإنصاف في القول، فمن يزعم حب رب العالمين، لا بد أن يقدم امتحانا في هذا المجال، وهو ما وقع لهذا النبي العظيم.. امتحانه الأول كان في كيد الآلهة، وفي تحطيم الأصنام، وفي إلقائه في النار.. كان هذا امتحانا عمليا في طريق تبليغ الرسالة، حيث تحمل ما تحمل من التهديد أولا، ومن التنفيذ ثانيا في إلقائه في النار، وبعد ذلك الامتحان مع قومه ابتلي مع نفسه وذريته.
نحن نعلم أن من أقوى الأواصر البشرية، علاقة الأبوين بأولادهم، وخاصة إذا كان الولد وهو في صباه يحمل بذور الملكات العالية.. فالنبي إسماعيل وهو صبي، يختلف عن باقي الصبية.. ومن الطبيعي أن تكون محبة إبراهيم لولده إسماعيل، لا تقاس بمحبة الآباء لأولادهم؛ لما لهذا الصبي من بوادر وملكات النبوة.. كالعلاقة بين يعقوب ويوسف، تلك العلاقة التي أثرت على أولاده فقالوا: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا}.. وإذا الامتحان الإلهي يأتي عند هذه النقطة من العلاقة والمحبة؛ فقلب إبراهيم متشبث بولده، وله الحق بذلك من الناحية الإنسانية، أو الناحية الرسالية.. وإذا بإبراهيم يأتيه الأمر الإلهي.
ولو أن جبرائيل (ع) جاء بمقدمات مقنعة، أو آيات، أو بعض الهبات الإلهية، وبعض البشائر مثلا؛ لما كان الامتحان بهذا المستوى.. وإنما هو مجرد منام رآه هذا النبي {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.. ومنام الأنبياء كاليقظة حجة، فإبراهيم (ع) يؤمر أمرا لم يتعارف عليه في تاريخ البشرية، من مجرد منام.. فلم يقال لإبراهيم: سلّم ولدك لملك من ملائكة الله ليذبحه، لكن طُلب منه أن يذبحه بنفسه وبيده.. والإنسان لا يعلم، هل يتعجب من فعل وفاعلية إبراهيم، أو من قابلية إسماعيل.. فإبراهيم نبي له تاريخ وسابقة في المجاهدة، وقد رأى النصرة الإلهية في حياته، وخصوصا إذا كان هذا عقب إلقائه في النار.. ولكن ما بال هذا الغلام، الذي لم يمر بتجارب، وإذا به يقول {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}، وليس لما تراه من المصلحة.. يقول: لا أزكي نفسي، وأنا في مقام الاستعداد لقبول الأمر الإلهي.. ولكن هذا الأمر يحتاج إلى إمداد إلهي {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
إن هذه القصة تثمر عن دروس كثيرة منها: درس في التوكل.. ودرس في الاستمداد من الله.. ودرس بأن الصبر هو عمود الدين، وبمنزلة الرأس من الجسد.. ودرس في التعبد الشرعي؛ أي مادام هناك أمر إلهي، فلا يوجد مجال لكلمة: لا.. فقد كان من الممكن لإسماعيل أن يسأل أباه، ما فلسفة هذا الحكم؟.. فأنا قبلت أن تذبحني، ولكل بيّن لي ما هي الفلسفة؟!.. لم يبحث الأب ولا الابن عن هذه الفلسفة.. ولهذا فإن رب العالمين يسلم عليه بعد ذلك: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
إن لإبراهيم مقام الخلة، ومقام رفع البيت، ومقام رفع القواعد، ومقام أن يكون جدا للمعصومين من ذريته؛ جزاءا لهذا الإحسان، ولهذه المجاهدة.. فالذي يريد الوصول إلى هذه الدرجات التكاملية، لابد أن يقدم قربانا لله بين يدي طاعته؛ يثبت لرب العالمين أنه في طريق العبودية الحقة لله عز وجل.
من المحطات الملفتة أيضا في حياة إبراهيم {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}.. أسكنهم عند البيت الحرام، ونحن نعلم أن هذا النبي كان من أغير الناس على ذريته وأهل بيته.. ولكنه قام بأمر مخالف أيضا للقواعد الطبيعية في هذا المجال، حيث ترك امرأة غريبة مع صبي صغير، في واد غير ذي زرع؛ عرضة لكل المخاوف والمخاطر، من قِبل المنحرفين والسراق وغيرهم.. ولكنه طلب من رب العالمين طلبا واحدا: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}.. لم يقل: اجعل هذه الأفئدة لأولياء صالحين ومخلصين، ولكن قال: أفئدة من الناس تهوي إليهم.. أي: يا رب!.. أنت بإمكانك أن تقلّب قلوب العباد، وتقلّب نفوسهم لما يصب في طريق الهدى والاستقامة.. وكلنا في حياتنا اليومية نطلب من الله عز وجل، أن يلّين أفئدة الخلق لنا سواء كانوا صالحين أو لا، لمكسب دنيوي أو أخروي.
بعد هذه التفضلات الإلهية العظيمة، يتمنى إبراهيم لذريته إقامة الصلاة {رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ}.. ما أهمية الصلاة عند إبراهيم حيث يقول: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء}؟..
في الختام نود أن نلقي ضوءا على إقامة الصلاة.. ما هو الفارق بين الإتيان بالصلاة، وإقامة الصلاة؟.. بين دفع الزكاة، وإيتاء الزكاة؟.. ما الفارق بين الإتيان والإقامة؟..
في إقامة الصلاة، هناك وجود خارجي لهذه الإقامة في حركة الحياة.. فالإنسان الذي يصلي في منزله، وسلوكه خارجه، لا ينسجم مع صلاته.. يقول: {إياك نعبد وإياك نستعين} في حمده، وفي الخارج يستعين بغير الله، ويعبد هواه.. فإذن، إن هذه الصلاة لا وجود لها خارجا، فهي صلاة على مستوى مجموعة من الألفاظ والحركات، أي صلاة ظاهرية.
أما إذا أضيف للألفاظ والحركات، انعكاس خارجي في الحياة؛ أصبحت صورة من صور إقامة الصلاة.. والقرآن الكريم بيّن لنا بأن هذه الركعات والألفاظ ينبغي أن يكون لها آثار خارجية {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}.. فإذن، إن النهي عن الفحشاء والمنكر، هو أثر خارجي؛ يحقق مفهوم إقامة الصلاة.. ولو كل إنسان أقام الصلاة بهذا المعنى، لما بقي منكر في المجتمع.. ومن هنا إبراهيم عندما يطلب هذا الطلب، يطلبه له ولذريته.. وكم من الجميل أن يطلب الإنسان الهداية له ولذريته إلى يوم القيامة، وليس لأولاده فحسب!.. {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}.. صدق الله العظيم